لقد كان قانون المرافعات، وما انشقّ عنه من قوانين إجرائية، هو حجر الأساس لتحقيق العدالة بكافة صورها، والضامن للمحاكمات العادلة. ولئن كانت التشريعات الموضوعية هي موطن العدل بمضمونه وفحواه، فإن التشريعات الإجرائية هي الطريق إليه وأداته، فالرسالة الأولى والأخيرة للتشريعات الإجرائية أن تكون أداة مرنة وفعالة، تمتاز نصوصها بالدقة والشمول والمرونة، لتتيح للقاضي وضوح الرؤية الذي يمكّنه من إنزال حكم القانون على الروابط القانونية على نحو يجعل الحقيقة القضائية التي يعلنها في أحكامه أقرب ماتكون إلى الحقيقة الواقعية.

وفي هذا السياق، تحتل الإجراءات التحفظية موقعاً محورياً في المنظومة الإجرائية، إذ تشكّل ضمانة أساسية لحماية أموال المدين والحفاظ على الضمان العام للدائنين، ومنع تهريبا لأموال أو الإضرار بمراكزهم القانونية قبل استصدار السند التنفيذي. ولهذا السبب، حرصت معظم التشريعات المقارنة على تقنين هذه الإجراءات وتوسيع نطاق تطبيقها.

وانسجاما مع هذا التوجه تبنى المشرّع القطري، في قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم (13) لسنة 1990 تنظيماً شاملاً للإجراءات الوقتية والتحفظية، وذلك في الكتاب الثالث من القانون، ومكّن الدائن من اتخاذ هذه الإجراءات قبل الحصول على السند التنفيذي. كما نظم الحجز على ما للمدين لدى الغير (المواد 445–472) في إطار حماية الضمان العام للدائنين وتحصين مراكزهم القانونية.

غير أن صدور قانون التنفيذ القضائي رقم (4) لسنة 2024 مثّل تحوّلاً جوهرياً في هذا النهج، إذ نصّت مادته الرابعة على إلغاء الكتاب الثالث كاملاً من قانون المرافعات. وفي المقابل، خلا قانون التنفيذ الجديد من أي تنظيم مماثل يعوّض المواد الملغاة من قانون المرافعات، ويضمن للدائن الحفاظ على ضمانه العام على أموال مدينه قبل استصدار حكم نهائي واجب التنفيذ، مقتصراً على تنظيم إجراءات التنفيذ في وجود السند التنفيذي، وقاصراً اتخاذ الإجراءات التحفظية على حالة صدور حكم غير واجب النفاذ (وفق المادة 8).

ويمثّل هذا الفراغ التشريعي عدولاً غير مبرّر عن نهجٍ مستقر اتّبعه المشرّع القطري لعقود، فضلاً عن كونه يخالف الاتجاهات المقارنة في التشريعات المدنية الحديثة التي تُقرّ للدائن الحق في اتخاذ إجراءات تحفظية لحماية ضمانه العام قبل صدور السند التنفيذي. كما أن هذا الفراغ يفتح الباب أمام المدينين للتصرف في أموالهم أو تهريبها، بما يُضعف مراكز الدائنين ويُفرغ الحماية القانونية من مضمونها.

ويتبيّن هذا الاختلاف بين نصوص قانون المرافعات وقانون التنفيذ القضائي من خلال نصّي المادتين (398) و(401) من الكتاب الثالث الملغى من قانون المرافعات، حيث نصّت المادة (398) على حق الدائن في توقيع الحجز التحفظي على أموال مدينه إذا لم يكن للمدين موطن مستقر في دولة قطر، أو خشي الدائن لأسباب جدّية فراره أو تهريب أمواله أو إخفاءها. كما نصّت المادة (401) على جواز إيقاع ذلك الحجز التحفظي إذا لم يكن بيد الدائن سند تنفيذي أو حكم واجب النفاذ، ويكون ذلك بأمر من قاضي التنفيذ.

وكذلك نصّت المادتان (445) و(446) من ذات الكتاب الثالث الملغى على تخويل الدائن الحجز على أموال مدينه لدى الغير إذا لم يكن لديه سند تنفيذي، وذلك باستصدار أمر من قاضي التنفيذ بإيقاع الحجز على أموال المدين لدى الغير إلى حين استصدار السند التنفيذي.

ولمنع تأبيد ذلك الحجز واستمراره دون تحديد مدة، ألزمت المواد التالية من ذات الكتاب الثالث الدائنَ طالب الحجز التحفظي بمباشرة إجراءات المطالبة القضائية قبل مدينه خلال أجل محدد، وصولاً إلى السند التنفيذي الذي يخوّله تحويل الحجز من تحفظي إلى تنفيذي.

غير أنه وبصدور قانون التنفيذ القضائي رقم (4) لسنة 2024، فقد نصّت مادته الرابعة على إلغاء الكتاب الثالث من قانون المرافعات، بما تضمنه من تنظيم لإجراءات الحجز التحفظي على أموال المدين سواء لديه أو لدى الغير في حال غياب السند التنفيذي. ومن ثم، كان لزاماً على المشرّع – صوناً لذات الغاية التشريعية – أن يُضمّن القانون الجديد تنظيماً للإجراءات التحفظية التي يمكن للدائن اتباعها خلال الفترة الممتدة من استحقاق دينه وحتى حصوله على السند التنفيذي.

غير أنه باستقراء مواد قانون التنفيذ القضائي، نجد أنها خلت جميعها من أي تنظيم مشابه، إذ اقتصر تعرّض القانون للحجز التحفظي على حالة صدور حكم غير واجب النفاذ، وذلك بموجب المادة (8) التي أكّدت أن الأحكام الجائز الطعن فيها بالاستئناف غير واجبة النفاذ، ومع ذلك يجوز اتخاذ الإجراءات التحفظية المناسبة بشأنها. كما ورد بالمادة (36) منذات القانون تخويل قاضي التنفيذ – في وجود سند تنفيذي – وقبل إعلانه للمنفذ ضده، مباشرةَ إجراءات الحجز التحفظي بما في ذلك الاستعلام عن أموال المنفذ ضده وإجراء الحجز عليها.

ومن ثم، فإن إجراءات الحجز التحفظي التي نظمها قانون التنفيذ القضائي اشترطت صدور حكم غير واجب النفاذ على الأقل، وذلك خلافاً لما كان مقرراً في المواد الملغاة من قانون المرافعات التي كانت تخوّل الدائن مباشرة الحجز التحفظي على أموال مدينه حتى قبل البدء بإجراءات المطالبة القضائية.

وفي ضوء ما خلت منه مواد قانون التنفيذ القضائي من تنظيم للحجز التحفظي، وبالنظر إلى إلغاء كامل الكتاب الثالث من قانون المرافعات الذي كان ينظم هذه الإجراءات، فإن ذلك يشكّل قصوراً تشريعياً واضحاً وإغفالاً لإحدى أهم الضمانات الممنوحة للدائن لحماية ضمانه العام على أموال مدينه خلال فترة التقاضي وحتى قبل البدء فيها.

وانطلاقاً من ذلك، تبرز الحاجة الملحّة إلى تدخلٍ تشريعي عاجل لإعادة تنظيم الإجراءات التحفظية ضمن منظومة قانون التنفيذ، بما يضمن للدائنين حماية فعّالة وسريعة لحقوقهم، ويحافظ على التوازن بين مصلحة الدائن في ضمان حقه ومصلحة المدين في عدم المساس بأمواله تعسفاً، إذ أن الإجراءات التحفظية ليست ترفاً تشريعياً، بل هي جزء أصيل من منظومة العدالة المدنية، وركيزة ضرورية لضمان فاعلية التنفيذ القضائي.

تعرف على

المساهمون في كتابة المقال

No items found.